الكاتب:علي فوزي
يعد الفن التركيبي Installation art أحد أفرازات فنون ما بعد الحداثة تلك التي تسعي لتجديد العلاقة بين الفن والواقع المعاشي على نحو جديد ومختلف عن السائد والمألوف. وقد تضاربت الأراء حول الجذور التاريخية والمكانية للمنتج الفني التركيبي كفعل ابداعي جديد ومباغت تجاوز المألوف فادهش المتابع والمتلقي حيث تخطي المعتاد وأحدث تحولا كبيراً جاء بالسلب تارة والإيجاب تارة أخرى فيما يتعلق بالثقافة البصرية Visual Culture للمشاهد .
وتمكن العمل التركيبي من مسايرة تلك التحولات الجذرية التي فرضتها ظروف العصر في ظل سيطرة ثقافة العولمة حيث جاء مغايراً تماماً لكل التوقعات المتعلقة بشكل ومضمون العمل الفني .
وقد اختلف النقاد والباحثين حول التفسير الدقيق لمعنى كلمة التركيبي لما تحويه من تداخلات في المعني ناهيك عن اشكالية الخلاف حول الموعد الحقيقي لانطلاقة العمل الفني التركيبي حيث يرى البعض أنها جاءت مع بداية ظهور هذه النوعية من الأعمال الفنية الغريبة التي أنتجها الفنان الشهير «مارسيل دوشامب» الذي سبقت أعماله المستهجنة وقتها ظهور تيار فنون ما بعد الحداثة.
العمل التركيبي والتكاملية :
بداية لابد أن نعترف أن الفعل الإبداعي التركيبي يعد -بالفعل- شكل جديد من أشكال الإبداع الفني المعاصر حيث تقوم أساسيات بناء هذه النوعية من الأعمال الفنية على تأكيد فكرة التكاملية بين العناصر البنائية والفكرية .
وتطرح هذه المشاريع البصرية الجديدة ما يقدمه الفنان من مخزون ثقافته البصرية والمعرفية في صورة إبداعات يتم من خلالها منطقة أفكاره ورؤياه الخاصة حول القضايا التي يرغب في طرحها على المتلقي على مختلف المستويات.
ويتكون العمل الفني التركيبي في غالب الأحيان من مجموعة أجزاء قد تكون غير متجانسة وغالباً ما يتم تجهزيها في الفراغ المحيط أو المتاح لتنفيذ فكرة العمل وبالتالي تدخل جميع أجزاء أو عناصر العمل ضمن نسيج بناء هذا الشكل الجديد الذي لا يهتم الفنان عن طريقة بقضية ضغر أو كبر حجم العمل وبالتالي لا يعاني إشكالية التوتر الفراغي بل على العكس يلعب هذا الفراغ دوراً هاماً وحيوياً في كينونة العمل التركيبي حيث تركز هذه النوعية من الأعمال على العلاقة الجادة والحميمة بين عناصر أو مفردات العمل والفراغات الداخلية والخارجية التي يتم في الغالب وضعها في الحسبان ضمن أساسيات بناء العمل رغم احتمال تلاشي وجود أي إتصال منطقي بين عناصر أو أجزاء العمل المرتبطة بهيكلة العام تبعاً لتلك المفاهيم Concepts التقليدية التي مازالت تسكن في أذهان البعض، فقد نرى بعض أجزاء العمل مثلا متباعدة في غير تنظيم أو متقاربة بغير نمطية أو يستند بعضها على الأخر أو يعلق بعضها فوق بعض وجميعها في نهاية الأمر مجرد حلول أو صياغات بصرية لها مغزي وتنعم بطابعها الشخصي الذي يؤكد فكر وذاتية الفنان المسئول الأول والأخير عن صباغاته وبالتالي هو نفسه الحريص على اقتناص اللحظة الابداعية الخلاقة التي تمكنه من اإبداع هذا الشكل الجديد والمعاصر للعمل الفني وفي نفس الوقت وسيلته المثلي لطرح ما يجول في نفسة وعقله من قضايا وإشكاليات فنية وبطبيعة الحال يجب أن يحرص الفنان على الاستحواذ التام والفاعل على اهتمام المشاهد ومدى تفاعلة مع العمل وحينما يتمكن الفنان من التحليق بالمشاهد في سماء تلك العوالم البصرية الجديدة التي تدفعة بدورها للمتعة البصرية والتأمل بالإضافة للتخلص من كل ما هو تقليدي ومألوف وكلها أهداف هامة وعامة جاءت فنون ما بعد الحداثة لتحقيقها لكونها تعد بمثابة قفزة نوعية ضد تلك القيود والمفاهيم المتبعة .
وكثير من الأعمال الفنية المعاصرة يعد العمل الفني التركيبي ثمرة من ثمار فنون ما بعد الحداثة ومنها فن البوب Pop art وفن المفهوم Conceptual art وفن الجسد Bady art وفن الحدث happening art وفن الحركة kineric art وفن المينمال minamal art
الفنون الحديثة وعلاقتها بفنون ما بعد الحداثة :
وبحكم وجودها القبلي لعبت الفنون الحديثة درواً هاماً في تحريك دافعية الحس الفني الجماهيري باتجاه رفض كل ما هو تقليدي ومعتاد في شكل ومضمون الفعل الإبداعي وبالتالي ساهمت في أثراء الثقافة البصرية والمعلوماتية للمتلقي وعملت على الارتقاء بذائقته العامة وساهمت في تنشيط الأداء الإبداعي الكامن من أعماق العديد من الفنانين الذين تركوا واتهم لسيطرة قيود العادي والمألوف .
وبناء على ما تقدم يجوز لنا اعتبار أن الفنون الحديثة قد مهدت الطريق لظهور وتلقي فكر وفن تيار ما بعد الحداثة بكل ما يحمل من توجهات ومفاهيم جديدة وغريبة أدت إلى انحصار دور لوحة الحامل لصالح تلك الصياغات البصرية الجديدة لشكل ومحتوى العمل الفني الذي جاء محملا بالدهشة والإثارة حيث ظهرت البروزات والنتوءات والملامس المختلفة على سطح العمل الفني الواحد كما تخطت بعض مفردات العمل حدود فضائه وتواجدت خارجة أحيانا وبجانبه أحيانا أخرى أو أسفلة أو فوقه .
ومع استمرار تدافع تلك المفاهيم الجديدة وإزاحة القديم تغيرت كل معالم وشكل الأعمال الفنية حيث تغيرت أبعادها وأصبحت أكثر رحابة وشمولية واستلزم الأمر ضرورة استحداث العديد من الوسائط والتقنيات الفنية المتطورة التي تم تسخيرها لصالح مراحل إبداع العمل الفني المعاصر.
وأدى تنوع التقنيات المتطورة وتزايد دورها إلى ثراء المنتج الإبداعي الجديد الذي أصبح من الصعب على العديد من الفنانين والنقاد تصنيفه ضمن أي مجال من مجالات الفنون البصرية المتعارف عليها .
وفي ظل كل تلك المتغيرات المتلاحقة أصبح من الضروري أن يحرص الفنان المعاصر على اغتنام فرصة إعادة تأهيل نفسه لمواجهة فنون الآخر بكل ما تحمله من مفاهيم غرائبية وأن يضع في حسبانه أن المعاصرة لا تعني تقليد الآخر أو السير في فلكه بل يجب الاستفادة من المتاح من ثورة المعلومات وثورة الاتصالات لإثراء مخزون ثقافته البصرية والمعلوماتية والخبراتية وجميعها عوامل هامة تساعد على التحليق في أجواء حرية الإبداع بلا حدود وبلا قيود.
Bookmarks